( حينما نفقد أعز من نحب )
لمرارة فقدان الحنان الفياض , والحضن البلسم , الأم الرؤم ونحن حدثاء عهدٍ بالطفولة , مرارةٌ تعلو مرارة الماء الأجاج , ولفداحة مصيبة فقدان هذا الحضن الدافئ فداحةً تفوق فداحة الحروب المهلكات والمعارك الطاحنات , لأننا نكون قد حرمنا نبع حنانها الفياض وليس هنا لب المشكلة وإنما لبها أننا حرمنا من نبع حنانها الزلال قبل أن نتبلغ منه كفايتنا , ونشفي منه غليلنا , ونعب منه ما يروي ظمئنا , فقل بربك : من أين لنا نهر جارياً بالحنان والعطف والرأفة والرحمة صباح مساء وقد ماتت النهر الجاري والنبع الصافي ؟ ما ذاك إلا مستحيلٌ على التأبيد . وليس ذاك فحسب الذي يصير مصيبتنا أفدح وأعظم وفائقةً مرارة الماء الأجاج وإنما هناك لباً آخر للنكبة العظمى والطامة الكبرى ألا وهو : من هو ذاك الإنسان الذي يتسع قلبه , وينفسح صدره , أن يعلم طفلاً غرير , لا يفقه شيئاً , عبادته وصلاته , أخلاقه وآدابه؟ن ذاك الذي سيزرع الحب والحنان , والرحمة والرأفة في قلبه , وقد ماتت نبع الحنان , ومن ذاك الذي سينصحه ويرشده وقد ماتت الباغية الخير لبنيها فلذات كبدها وحشاشات قلبها .
حينما من جمعت هاتان الخصلتان الحميدتان , والمنقبتان الجليلتان , حقٌ لنا لازم أن نستعبر حتى تتقرح أعيننا من العبرة الرقراقة , وأن نشهق ونزفر حتى تنزف أنفاسنا , وأن تتحرق أحشائنا حتى تفنى وتعدم , لا تفارق أخيلتنا صورة النبع الحنون , ولنتمثل بقول الشاعر راثياً من يحب
فإذا انتبهتُ فأنتِ أول ذُكرتي وإذا أويتُ فأنت آخر زادي
ثم لنصرخ بصوتنا الطفولي لنسطر رسالة الحزن السرمدي :
أماه يا جنة الأرض وداعاً , أماه يا نبع الحنان وداعاً , أماه قد وارينا بالأمس عليك التراب وبئس التراب ذاك , وافترقنا عن بعضنا , فمن بعدك يسعى في تربيتي ويقومني , ومن بعدك ينظف ثيابي , ويزيل عني القذر , ومن بعدك يُسر لسروري , ويحزن لأشجاني , ويئن لأنيني , ويمرض لمرضي,ومن بعدك يعلمني الحب والحنان , ويطبع على وجنتي قبلةً ساحرة قد أُدعت فيها كل معاني الحب والمودة , وينادني بأعذب الألقاب : تعال يا روحي , اذهب يا حبيبي , خذ يا حياتي , ومن بعدك يرشدني لصلاح ديني بقلبٍ راغباً الخير لي قائلاً :صل يا بني , صم يا بني , اقرأ كتاب ربك , لا تكذب , لا تكره أحداً , لا تحقد على أحد , لا تنافق , اعف عمن ظلمك , أحسن إلى الناس , تخلق بكل خلق حسن , وتجمل بكل صفة حميدة , لا أحد لا أحد من بعدك يعلمني هذا ولا أقل من ذلك , فأنت المدرسة وإذا رحلت المدرسة فلا تعليم ولا تهذيب ولا تقوي.
أماه :
إن الطفولة بعد وفاتك جاثية على ركبتيها في انكسار, مطرقة يكتنفها الحزن , يعلو وجهها سيماء الأسى , تعيش في مناحةٍ أبدية , تتساقط عبراتها زخات زخات , في كل عبرة مكتوبٌ عليها ( ماتت الرحمة مات الحب فلتفرح القسوة وليبتهج البغض وجنده) , الطفولة بعد فقدانك يا أماه تنادي بصوت جهور : يحق للبسمة أن تذبل وللفرحة أن تذوي فلا تعودان قط لأنها فقدت ربانة من ربانتها المخلصات
( الأمهات العظيمات ) ,ولتكن الحياة من بعدها عمل في صمت , وحوارٌ في هدوء , ولعبٌ في انكسار , وأفراحٌ في وجوم , يشيع الأسى كل أوقاتها . واختنق صوت الطفولة بشهقيها وزفيرها ونشجت نشجيحاً مراً , تريد أن تستكمل حديثا فلا تستطيع حتى أمضت ساعة تبكي عليك وتتفجع فهدأت ثائرتها قليلاً ومازالت تهدأ وتهدأ حتى صمتت مطرقة يعتريها وجوم باكي أو بكاء واجم وظلت ساعة على حالتها تلك ثم رفعت رأسها قليلا وقالت بصوت حزين أليم : أماه أنت نصف البشر فأنجبت نصفه الآخر في عناء وشقاء , فغدوت كل البشر , فكيف الحياة بعدك يا كل البشر؟